تفسير آيات الأحكام من سورة النور
معنى قوله تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
...............................................................................
كذلك قال بعد ذلك: رسم> وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قرآن> رسم> وتطلق الزينة هاهنا على اللباس؛ أي ما ظهر من اللباس الذي لا يمكن ستره إلا بلباس ثان فهذا يعفى عنه، ولكن تحرص المرأة على أن تتستر بقدر ما تستطيع، فإذا كانت ثيابها لافتة للنظر لبست فوق ذلك عباءة أو لبست رداء ليس لافتا للنظر حتى لا تتعلق بها الأطماع.
مما يلفت الأنظار الألبسة الغريبة التي لم تكن معروفة في المجتمعات الإسلامية، فإذا لبست ثيابا مزركشة ملونة بألوان غريبة؛ كان هذا من أسباب النظر إليها، وإذا نظر إليها الرجال فقد يكررون النظر إليها ويعجبون بها، وقد يكون مقصود كثير من النساء بلباس أو بتلك الألبسة التي هي ألبسة غريبة أن تجذب إليها الأفكار وأن تلتفت إليها الأنظار.
وهذا لا شك أنه من أسباب ووسائل انتشار الفساد؛ فعلى المرأة إذا بدت وخرجت أن تستر لباسها بلباس عادي؛ فإذا كان لباسها -يعني- ثيابها فيها شيء من الزركشة وشيء من النقوش الغريبة، لبست فوق ذلك عباءة أو مشلحا عاديا، ولا تلبس ما فيه شيء من الغرابة إذا كانت هذه العباءة مما تلتصق بالثياب وتبين حجم الأعضاء، أو تجسد جسد المرأة؛ فلا يجوز لها ذلك.
وكذلك لا تلبس الثياب الشفافة التي تشف عما تحتها؛ بحيث أنها إذا ظهرت وبدت فقد ينظر إلى بياض جسدها أو سواده أو معرفة لونه؛ وذلك -بلا شك- نظر إلى ما لا يحل، فكذلك أيضا تحرص على أن يكون لباسها من اللباس الكامل الذي يكون ساترا وليس فيه ثقوب ولا شقوق، فهناك من النساء من تلبس ثيابا مشقوقة أطرافها من الأسفل بحيث يبدو الساق أو بعضه إذا مشت، وهذا ينافي حشمتها ويلفت نحوها الأنظار السيئة.
وقد ذكرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن ذيول النساء قال: رسم> يرخين شبرا -يعني ترخيه تحت القدم شبرا- فقيل: إذن تبدو أقدامهن، فقال: يرخين ذراعا ولا يزدن على ذلك متن_ح> رسم> ؛ يعني حرصا منه صلى الله عليه وسلم على ألا يبدو منها ولو أظافرها ولو رءوس أصابعها؛ حيث أمرها بأن ترخي ثيابها أو مشالحها على الأرض هذا المقدار.
وإذا كان كذلك فإن إظهار قدميها يعتبر عورة، ودافعا إلى ما لا تحمد عاقبته، كذلك أيضا في الصلاة نهيت عن أن تلبس شيئا قصيرا: رسم> سئل: أتصلي المرأة في الدرع الواحد؟ فقال: نعم. إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها متن_ح> رسم> ؛ يعني ولو كانت خالية فعليها في الصلاة أن تستر جميع بدنها إلا وجهها لتسجد عليه؛ فتستر قدميها وكفيها وجميع جسدها ولو كانت خاليا المكان حولها.
وإذا خرجت إلى المسجد للصلاة فإنها تخرج محتشمة متسترة تقول عائشة اسم> رضي الله عنها: رسم> كان يشهد صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نساء متلففات بمروطهن متن_ح> رسم> متلففات بمروطهن أي: تلتف وتتلفع بمرطها الذي هو الرداء الذي تضعه على رأسها وتلفه على جسدها حتى لا يعرفهن أحد.
ولما رخص لهن في المساجد اشترط أن يخرجن في ثياب بذلة في قوله: رسم> لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات متن_ح> رسم> أي: لا تخرج متجملة، ولا متطيبة، بل تخرج بثياب بذلة حتى لا يقع منها أو لا تفعل ما يلفت الأنظار نحوها: رسم> وليخرجن تفلات متن_ح> رسم> مع أنه -صلى الله عليه وسلم- فضل صلاتهن في بيوتهن بقوله: رسم> وبيوتهن خير لهن متن_ح> رسم> ؛ حتى لا تخرج المرأة فينظر إليها الرجال؛ ولو كانت محتشمة متسترة.
وفي حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: رسم> صلاة المرأة في مسجد قومها أفضل من صلاتها في المسجد الجامع، وصلاتها في رحبة بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في رحبة بيتها متن_ح> رسم> ؛ يعني كلما كانت متسترة فكانت تلك المرأة التي سمعت هذا الحديث تختار للصلاة أظلم بقعة في بيتها. لا شك أن هذا لأجل صيانتها.
وقد ورد النهي عن تبذل النساء وعن تجملهن إذا خرجن حتى قال -صلى الله عليه وسلم- رسم> أيما امرأة تطيبت ومرت على الرجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا -أي زانية- متن_ح> رسم> مع أنه ما وقع منها إلا أنها تطيبت ومرت أمام الرجال؛ وذلك لأنها بهذا كأنها تريد أن يلتفت الناس إليها؛ فتوعدها وجعلها شبه زانية مع أنه ما وقع منها ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى النساء عن التطيب الذي يوجد رائحته يقول: رسم> طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه متن_ح> رسم> ؛ يعني النساء في ذلك الزمان لا يتطيبن إلا بشيء له لون كزعفران أو ورس أو عصفر أو كركم شيء مما يصفر الخد أو يصفر الذراع، ويكون له لون؛ ومع ذلك فإنها تستر ذلك وإنما تتجمل به أمام زوجها أو عند الحاجة إلى التجمل، فأما الطيب الذي له رائحة؛ فلا يجوز لها أن تستعمله سيما إذا خرجت.
كل ذلك من الحفاظ على المرأة حتى لا تقع في أيدي العابثين، وفي هذه الآية قول الله تعالى: رسم> وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قرآن> رسم> أي: اللباس الظاهر. من قال: إن ما ظهر هو الوجه والكفان فهذا قول مرجوح، ولو روي بسند فيه نظر عن ابن عباس اسم> فالآثار الصحيحة تدل على أنهم كانوا يأمرون المرأة أن تستر جميع بدنها.
واللباس يسمى زينة لقوله تعالى: رسم> خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قرآن> رسم> يعني: لباسكم وأكسيتكم ولا تتبرج لا يتبرج النساء، كذلك أيضا قد يسمى الحلي زينة لقوله تعالى: في قصة بني إسرائيل: رسم> وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قرآن> رسم> ؛ يعني: من حليهم- رسم> فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ قرآن> رسم> .
فإذا كان هناك شيء من الحلي في الأصابع عند الحاجة إلى إبدائها فلا مانع من إبداء اليد إذا كان فيها خواتيم أو نحو ذلك عند الحاجة، مع الحرص على أن تستر ما تستطيع ستره، إذا ظهرت للرجال وعليها خواتيم وتحتاج إلى أن تأخذ أو تعطي؛ فالأولى لها أن تلبس جوارب تستر كفيها وتستر زينة الكفين كالخواتيم ونحوها، وتستر أيضا زينة الذراعين؛ أي الحلي كالأسورة وأشباه ذلك.
ثم يقول تعالى: رسم> وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ قرآن> رسم> أمر من الله تعالى للنساء بهذا الأمر، الخمار هو: ما تلبسه على رأسها، وقد ورد إيجابه على كل من بلغت قال صلى الله عليه وسلم: رسم> لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار متن_ح> رسم> أي صلاة بالغة؛ يعني من بلغت في سن المحيض فلا يقبل الله صلاتها إلا إذا اختمرت؛ أي غطت رأسها وشعرها بهذا الخمار.
أمرت إذا خمرت رأسها أن تدلي هذا الخمار حتى يستر فتحة جيبها: رسم> وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ قرآن> رسم> أي: يدلين الخمار من الرأس فيستر الوجه ويستر فتحة الجيب.
هذا دليل على أن الوجه من جملة ما تستره؛ لأنه مجمع المحاسن فلا بد من ستره سيما أمام الرجال الأجانب.
الجيب عادي .. ؛ يعني الصدر إذا كان المرأة عليها ثوب قد فتح له فتحة في مدخل الرأس، فقد يبدو من صدرها مثل قدر الإصبع أو نحوه، أمرت بأن تستره تستر فتحة الجيب بخمارها، مع أنه ليس فيه من الفتنة ما في الوجه. فإذا أمرت بأن تستر هذا الأمر الذي هو مقدار إصبع عرضا أي: عرضه كعرض الإصبع، فكيف بالوجه الذي هو مجمع المحاسن؟! فإنه أولى بأن تستره سواء بالخمار أو بغيره.
وقد دل على ذلك أيضا قوله في آية أخرى: رسم> قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ قرآن> رسم> نساء المؤمنين أي: جميع نساء المؤمنين رسم> يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قرآن> رسم> ؛ الجلباب هو الرداء الذي تضعه على رأسها ثم تلفه على جميع جسدها بما في ذلك الوجه والصدر واليدان ونحو ذلك حتى تعرف بأنها عفيفة فلا تؤذى، يعرفن بالعفاف، ويعرفن بالتستر ويعرفن بالاحتشام، ويعرفن بالبعد عن الفحش وعن قرب الفاحشة، يعرفهن من نفسه رديئة؛ فلا يؤذيهن ولا يزاحمهن ولا يعاكس ولا يجرؤ أن يتكلم معها إذا رآها عفيفة متسترة.
هذا هو الأصل أن أهل الفسوق كلما رأوا المرأة متسترة محتشمة ساترة ما يبدو منها؛ أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها ولم ينظروا إليها. أما إذا رأوها وقد أبدت شيئا من محاسنها؛ فإن أطماعهم تمتد إليها، ويطمعون في أنها تميل إليهم؛ فلذلك قال: رسم> ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ قرآن> رسم> فهذا دليل على أن من جملة ما تستره رأسها ووجهها وصدرها وجميع جسدها لقوله: رسم> يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قرآن> رسم> .
فكذلك قوله في هذه الآية: رسم> وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ قرآن> رسم> ودل من السنة أيضا حديث عائشة اسم> وهي محرمة تقول: رسم> كنا إذا حاذانا الرجال ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه متن_ح> رسم> مع أنهن محرمات، إذا دنا منهن الرجال وحاذوهن سدلت؛ يعني أرخت جلبابها من رأسها على وجهها.
ولو كان الوجه وجه محرمة فتستر الوجه ولو أن الجلباب يمس بشرة الوجه مع الإحرام رسم> فإذا جاوزونا كشفناه متن_ح> رسم> دليل على أن هذا كان دأب النساء المؤمنات بما فيهن أمهات المؤمنين.
وكذلك قول الله تعالى: رسم> وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ قرآن> رسم> الحجاب: كل ما يحجز النظر، وكل ما يحول بين الناظر وبين ما يريد أن ينظره لقولهم: رسم> وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ قرآن> رسم> رسم> جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا قرآن> رسم> فالحجاب هنا: هو ما يحجب النظر فكل لباس يحجب النظر إلى المرأة يدخل في هذه الآية: رسم> فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ قرآن> رسم> فلا شك أن هذا دليل على أنها لا يجوز أن تبدي زينتها، بل عليها أن تتحجب حجاب المرأة الكامل هو سترها لبدنها بما في ذلك وجهها ونحو ذلك.
مسألة>